شخصية مبارك الميلي
يعد الشيخ “مبارك بن محمد بن مبارك إبراهيمي الميلي”، نسبة إلى قرية الميلية المولود بتاريخ 23 ماي 1896- إحدى الشخصيات العالمة المهمة في المشهد التاريخي والإصلاحي والتعليمي والتربوي في الجزائر، حيث كان يمتلك قدرات تواصلية باهرة، وأوتي جملة من الخصال والفضائل والحرف، كالفصاحة في الخطاب، والقدرة على التأثير في السامعين، وإثارة الوعي النهضوي لدى الغافلين، وله طاقة كبيرة في الاقناع لدحض مؤامرات المستعمرين. ونجح أيضا في أن يكون إعلاميا قديرا، وسفيرا للخير، وإماما مفوها، وحداثيا في الرؤية، ومعلما مقنعا، ومربيا مفلقا, هو الشيخ مبارك بن محمد بن رابح الهلالي الميلي الجزائريّ، ولقب أسرته: براهيمي. ينحدر من أولاد مبارك بن حباس من الأثبج، العرب الهلاليِّين، وهم من القبائل العربية القليلة في نواحي جِيجَل.
نشأ الشيخ مبارك الميلي يتيمًا، فقد توفِّي أبوه وعمره أربعُ سنين، وبعد وفاة والده توفِّيَت أمُّه تركيّة بنت أحمد بن فرحات حمروش وذلك سنة 1902م، فكفله جدُّه رابح الذي توفِّي سنة 1908م، ثمَّ كفله عمّاه عَلَّاوةوأحمد.
وبدأ الشيخ تعليمه بأولاد مبارك بالميلية تحت رعاية الشيخ أحمد بن الطاهر مزهود حتى أتمَّ حفظ القرآن. ثم انتقل إلى مدينة ميلة وكانت آنذاك قبلة للعلم تستقطب طلاب حفظ القرآن، فواصل تعليمه بها بجامع سيدي عَزُّوز على يد الشيخ المعلِّم محمد بن معنصر الميلي لمدة أربع سنوات، ولم يتجاوز عندها السن الثانية عَشرة و في سنة 1918م توجّه إلى مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري؛ إذ التحق بالجامع الأخضر ليتابع تعلُّمه على يد الإمام عبد الحميد بن باديس، وهناك وجد بغيته في دروس الأستاذ الحيّة، وتلقَّى منه الأفكار الإصلاحية بحماس وإيمان، فكان من أنجب تلاميذه ومن الجادّين المجتهدين الراغبين في التحصيل، فأعجب به أستاذه وأحبَّه كثيرًا وقرَّبه إليه. وبعد ذلك رحل إلى جامع الزيتونة بتونس، وأخذ عن جلّة رجال العلم والمعرفة به، منهم الشيخ محمد النخلي القيرواني، والشيخ محمد الصادق النيفر، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ بَلَّحْسَن النجار، والأستاذ محمد بن القاضي وغيرهم، وظلَّ هناك حتى تحصَّل على شهادة العالمية سنة 1924م..
نشأته وتكوينه العلمي
تتلمذ في تعلمه الابتدائي على شيخه ومربيه محمد الميلي بميلة ، ثم التحق بالشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1338هـ/1919م، ونظرا لنبوغه أشار له بالذهاب في السنة نفسها إلى تونس لإتمام دراسته الثانوية، فأتم دراسته في الجامعة الزيتونية، ليتحصل فيها على أعلى شهاداتها العالمية بامتياز، بعد أن قضى فيها أربع سنوات، عاد في سنة1925م إلى الجزائر، ليحل بقسنطينة، ليكون خير معين للشيخ عبد الحميد بن باديس، ولما استعان به أعيان الأغواط شجعه وانتدبه الشيخ للذهاب بغية الاصلاح ونشر الوعي فيها، فحل بها في آخر سنة 1926م، لتبدأ مرحلة جديدة من التنوير، فأسس فيها مدرسة الشبيبة للبنين والبنات، التي كانت تجمع بين التراث والمعاصرة، “وكان الشيخ مبارك بارعا في التدريس، له أسلوب جذاب في دروسه، ومناهجه حديثة، وقد حبب العلم والعربية لتلاميذه وحبب إليهم مدرسته”. (نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة، محمد عليدبوز، ج3، ص 259). ولم يكتف الرجل بالأغواط إقامة، بل كان يزور الكثير من المدن المجاورة مثل بوسعادة والجلفة،واعظا ومدرسا ومصلحا..
مساره التعليمي
نجح الشيخ مبارك في بعث الكثير من التلاميذ النبغاء إلى معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة وطائفة أخرى إلى جامع الزيتونة، بغية التحصيل المعرفي، من أجل مواصلة مسيرة الوعي والثورة على الثقافة الانهزامية وعلى التدين المغشوش الذي كانت تمارسه بعض الفرق الطرقية، وفعلا أثارت نوايا الشيخ وأفعاله غضب المناوئين من الطرقية والاستعمار، فمارسوا عليه الضغوطات الرهيبة والتهديدات بالتصفية الجسدية، أرغمته على الرحيل من الأغوط سنة 1933م، عائدا إلى مسقط رأسه بميلة، وازدادت عزيمته أكثر في التغيير، حيث أسس مسجدا للصلاة وجمعية إسلامية ثقافية وخيرية، وكتب الكثير من المقالات الملتهبة في جريدة المنتقد والشهاب وغيرها من الصحف والمجلات، وشارك في تأسيس جمعية العلماء المسلمين سنة 1931، وانتخب عضوا في المكتب الإداري وأمينا عاما للمالية، وعين سنة 1937 مديرا عاما لمجلة البصائر خلفا للشيخ العقبي. وبعد موت بن باديس خلفه الشيخ مبارك الميلي في دروسه بالجامع الأخضر بقسنطينة، ولما ازداد ضغط مرض السكر عليه، سافر إلى باريس في مهمة استشفائية وعلمية.